فيروس جديري الحصان الاصطناعي: هل أصبحنا قادرين على تصنيع الفيروسات؟
منذ ظهور فيروس الكورونا المستجد كوفيد-19 في أواخر شهر ديسمبر بمدينة ووهان الصينية وانتشاره السريع في جميع قارات العالم مع بداية سنة 2020 وإصابته حوالي مليوني ونصف إنسان في مدة لم تتجاوز الأربعة أشهر، والعالم كله يتساءل عن مصدر هذا الفيروس الجديد “The Origin of Novel Coronavirus”.
هل هو فيروس انتقل من الحيوانات البرية كالخفافيش تم إلى الإنسان عبر عائل وسيط وهي القصة المتداولة إعلاميا المتناقلة بين وسائل الأعلام؟، أم أنه فيروس اصطناعي تم تصنيعه في مختبر وبسبب خلل أمني بيولوجي في الاحتواء خرج للمجتمع المحيط وسبب هذه الكوارث الصحية والاقتصادية التي أصابت العالم بالشلل الكامل؟
أسئلة كثيرة أصبحت تتكرر في الأعلام العالمي، وخاصة بعد ظهور اتهامات مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية وأستراليا ضد الصين بإخفاء معلومات مهمة حول أصل فيروس كورونا المستجد كوفيد-19 وقدرته على التسبب في المرض وسرعة الانتشار وغيرها من الأمور.
حتى أن بعض من وسائل الأعلام أصبحت تتكلم على أنه فيروس قد تم تصنيعه في مختبر ووهان لعلوم الفيروسات، وهو مختبر من المستوى الرابع للأمن البيولوجي (Biosafety Laboratory Level 4) أنشاء سنة 2003 بعد ظهور مرض فيروس السارس (SARS) المشابه جدا لفيروس الكورونا المستجد كوفيد-19، وأنه وبسبب خلل أمني بالمختبر خرج الفيروس وسبب أصابات في الأفراد بالمناطق المحيطة والقريبة مثل سوق ووهان للأسماك والحيوانات (Wuhan Wet Market).
فهل يمكن تصنيع الفيروسات في المختبر؟
في 19 يناير 2018، نشرت ورقة علمية لعالم الفيروسات ديفيد إيفانز وزميله في البحث ريان نويس بجامعة ألبرتا الكندية أثارت جدل علمي كبير حول ابتكارهم فيروساً اصطناعيا وهو فيروس جديري الحصان (Horsepox virus)، شبيه لفيروس جديري البقر (Cowpox virus) أو فيروس (Vaccinia Virus) المستعمل في تصنيع لقاحات مرض الجدري.
الفيروس الجديد أعادوا تركيبه صناعياً باستخدام الجينوم المنشور وشظايا الحمض النووي المصنعة بالكامل بالطرق الكيميائية، في سعيهم إلى تطوير لقاح أكثر فعالية ضد عدوى الجدري الخطير (Poxvirus Infection) في الإنسان بحيث يكون أقل أثار وأضرار جانبية من اللقاح القديم.
أجاب العالم إيفانز عندما سئل عن هذه التكنولوجيا الجديدة “إن تطبيق تكنولوجيا الحمض النووي الاصطناعي لديه القدرة على إحداث ثورة في كيفية تصنيعنا للمواد البيولوجية المعقدة بما في ذلك الفيروسات المؤتلفة (Recombinant Viruses)”، أيضا أضاف “أن هذه الأساليب قادرة على إنتاج لقاحات الجيل التالي وتقدم وعدًا خاصًا كأداة لبناء الفيروسات الاصطناعية المعقدة التي من المحتمل أن تكون ضرورية لعلاج السرطان”.
أثارت هذه الدراسة العديد من الجدل في الوسط العالمي ما بين مؤيد ومعارض، حيث قال المؤيدين بأنه يمكن استخدام هذه التقنيات للحمض النووي الاصطناعي لتعزيز تدابير الصحة العامة وإنتاج لقاحات أكثر فعالية وسلامة ضد العديد من الفيروسات الممرضة كالجدري مثلاً والذي بالرغم من انتهائه من العالم في عام 1977، ولكن لا يزال يعتبر مصدر قلل عالمي وخاصة أن هناك مخزون من فيروسات مرض الجدري لا زالت موجودة ومخزنة في مختبرات مزودة بنظام أمني بيولوجي مشدد (High-Security Facilities) في كل من الولايات المتحدة وروسيا.
كما أكد البعض بأن اللقاحات المصنعة بهذه الطريقة أفضل من حيث الجودة وتوفر حماية أكثر، فعلى سبيل المثال لقاحات الجدري الحالية تستخدم في نطاق محدود جدا بسبب سمية غالبيتها وأثارها الجانبية، ففي كندا والولايات المتحدة قد اوقفت تحصينات لمجموعات كاملة من السكان بهذه اللقاحات القديمة بسبب سميتها في حملات في أطار مساعيها لتحصين الجميع لاستئصال الجدري نهائياً من بلدانهم.
أما الجزء الكبير من المعارضين فكانت مخاوفهم من وصول هذه التقنيات إلى أيادي مجرمة من إرهابيين يمكن لهم من استحداث فيروسات خطيرة قد لا نستطيع التعامل معها ويكون حجم الأضرار حينها كبير، وبالمناسبة، الدراسة التي قام بها العالم إيفانز وزميله قد كلفت مالياً 100 ألف دولار وهذا يعتبر مبلغ زهيد ومتاح للجميع لتصنيع مثل هذا الفيروسات.
أيضا مخاوفهم موجودة حتى عند إجراء دراسات علمية على تلك الفيروسات الاصطناعية من قبل علماء بنوايا حسنة مع احتمال حدوث أخطاء بشرية وطفرات جينية غير طبيعية بسبب عوامل بيئية او كيميائية وهروب تلك الفيروسات وانتشارها في المجتمعات البشرية أو الحيوانية المحيطة وتسببها في أوبئة وجائحات. تاريخياً، خلال القرن العشرين مات بسبب فيروسات الجدري (والتي قام العالم إيفانز بتصنيع شبيه له) أكثر من 300 مليون إنسان حول العالم وهو أكثر بثلاث أضعاف من أعداد الموتى خلال كل الحروب التي جرت في ذلك القرن.
قضية تجارب الفيروسات الاصطناعية نوقشت كثيرا من قبل عدة باحثين وقد توصل بعض منهم لعدة إجراءات يجب تطبيقها وحلول أساسية ضرورة من أجل معالجة التجارب المستقبلية التي يمكن أن ينشأ عنها مخاطر أوبئة من ضمنها:
- اعتماد معيار جديد في العلوم المتعلقة بهذه الفئة من العمل من قبل العلماء ومجتمع الطب والصحة العامة، ويجب أن نعترف بأن هناك جهودًا تجريبية يمكن أن تؤدي إلى خلق مخاطر جائحة جديدة، سواء كانت خلق سلالات جديدة، أو نشر تقنيات جديدة تبسط خلق فيروسات جائحة قديمة مستأصلة.
- المزيد من الشفافية في مراحل تصميم مقترحات التجارب والموافقة عليها والتمويل، وفي مراجعة التجارب التي يمكن أن ينتج عنها مخاطر أوبئة، والتي لا يجب أن تتم بدون فائدة واضحة لها، وربما حجة استحداث لقاح جديد قد لا تكون مقبولة لتبرير القيام بتجارب خطيرة وتصنيع فيروس من احدى السلالات الخطيرة والتي ربما تخرج عن التحكم فتسبب جائحة فتاكة.
- زيادة الأشراف على مثل هذه الأعمال. بحيث تتم متابعتها وأحيانا الأشراف عليها مباشرة من قبل منظمات رسمية حكومية ذات مصداقية عالية ولا تترك تلك التجارب بدون دليل إرشادي مقنن لها. ويجب التركيز بقوة على الشفافية في كل مراحل العمل.
لقد أدى التقدم في العلوم والتكنولوجيا، والعولمة، وحدوث الاضطرابات والفوضى البيئية في الكوكب (المسببة بواسطة الإنسان نفسه كالتغير المناخي والاحتباس الحراري)، وكذلك التنافس والصراع ما بين القوى العظمى كدول أو شركات الصناعية الضخمة إلى زيادة المخاطر التي تشكلها التهديديات البيولوجية سوء التي تحدث بشكل طبيعي أو التي تحدث من صنع الإنسان.
خلال هذه العقود أصبحت قضايا الأمن البيولوجي على جدول أعمال الأمن الدولي (International Security)، بالرغم من أننا وحتى وقتنا الحالي لا توجد لدينا تعريفات واضحة للأمن البيولوجي وتصنيف التهديدات البيولوجية بشكل جلي والتي تشمل حالات تفشي الأمراض التي تحدث بشكل عرضي أو متعمد بشكل طبيعي، وكذلك تحديد الجهات الفاعلة التي تعتبر مصادر محتملة للتهديدات وأيضا المجموعات الأكثر عرضة للخطر من هذه التهديدات، فهذه كلها نقاط تحتاج لإجراء المزيد من البحث والتحليل ووضع السياسات المناسبة والأطر القانونية مرفقة معها خطوط حمراء لمنع التهديدات البيولوجية في المستقبل.
وأخيرا، يجب على الدول والهيئات العلمية الانخراط في هذه المشكلة ووضع سياسة فاعلة لمعالجتها مع الأشراف الكامل عليها حتى نحد من مخاطر الأوبئة ويجب على الدول التعاون في هذا المجال بشفافية عالية وتبني سياسيات عامة أكثر فاعلية بشأن هذه القضية. ويجب تعاون الجميع من العلماء وخبراء الصحة العامة والطب وعلماء الأخلاق وغيرهم من ذوي الخبرة اللازمة لإصدار أحكام محايدة وغير معقدة حول مخاطر وفوائد التجارب المقترحة التي تنطوي على مخاطر وبائية.
تعاون الجميع ضروري في هذه الأمور لأن حدوث وباء في دولة ما فهذا يمس الجميع، ولعل ما حدث في جائحة فيروس الكورونا المستجد كوفيد-19 التي نعاني منها الأن لهو أفضل دليل على أننا جميعا في مركب واحد، وأننا جميعا سنتضرر به. فهل ياترى تعلمنا هذا الدرس القاصي أم لا؟
References
Coyne CB (2018) Horsepox: Framing a dual use research of concern debate. PLoS Pathog 14(10): e1007344. https://doi.org/10.1371/journal. ppat.1007344
Inglesby T (2018) Horsepox and the need for a new norm, more transparency, and stronger oversight for experiments that pose pandemic risks. PLoS Pathog 14(10): e1007129. https://doi. org/10.1371/journal.ppat.1007129
Michael B. A. Oldstone. (2010). Viruses, Plagues, And History. Past, Present, And Future. Oxford University Press. Oxford New York
Noyce RS, Evans DH (2018) Synthetic horsepox viruses and the continuing debate about dual use research. PLoS. Pathog 14(10): e1007025. https://doi.org/10.1371/journal.ppat.1007025
Noyce RS, Lederman S, Evans DH. Construction of an infectious horsepox virus vaccine from chemically synthesized DNA fragments. PLoS One. 2018; 13(1):e0188453. Epub 2018/01/20. https://doi.org/ 10.1371/journal.pone.0188453 PMID: 29351298.
Thiel V (2018) Synthetic viruses. Anything new? PLoS. Pathog 14(10): e1007019. https://doi.org/10.1371/journal.ppat.1007019
اترك تعليقاً