ماذا تريد أن تحرق؟
فالقصة القصيرة فن راقي من فنون الكتابة وهي من الفنون الصعبة جدا، إلى حد الأن لا زلت عاشقاً لهذا الفن الراقي مند الصغر ومند بداياتي مع حب المطالعة. كنت أقتني الكتب القصصية القصيرة أكثر من إقتنائي لروايات الطويلة بالرغم من أن عدد من تلك الروايات الطويلة يجب عليك قرأتها لأنها جزء لا يتجزاء من التراث الأنساني وأحكي هنا عن الروايات الطويلة للروئيين العظام مثل هيجو وتلوستوي وإرنست هيمنجوي والطيب صالح وحنا مينا وغيرهم الكثير من عمالقة الروايات الطويلة بالرغم من أن بعضهم ايضا كتب القصة القصيرة وابدعوا فيها.
القصة الأولى: ماذا تريد أن تحرق؟
ماذا تريد أن تحرق؟ عنوان أخترته لهذه القصة التي سأرويها لكم، أو أنه (لأكون صادقاً معكم) عنوان قد فرض نفسه علي ما سأكتبه بدون أن أختاره.
بداءت قصتي عند وصولي للكلية التي اشتغل بها فابلغتني سكرتيرة العميد بان شخص أنتظرك طويلاً وترك هذه الورقة، ورقة تحتوي على أسم وعنوان ورقم تلفون وهي لرئيس شركة خدمات طبية ليبية المانية، فقلت في نفسي شركة خدمات طبية اسم فضفاض ويتسع للكثير من الأشياء، ودائما (لا ادري السبب) تمتلكني الريبة والشك في هذا النوع من الشركات، هذه الشركات تكون متعددة المهام والأغراض وغير متخصصة ولا يمكن لك التكهن فيما يتاجرون، وهم عادة يشتغلون في جلب المعدات الطبية بشتى أنواعها وهذا بالتأكيد اول مهامها، وكذلك الأدوية وغيرها الكثير الكثير من الأشياء، وهي الصفة التي اصبحت مميزة في الشركات الليبية حديثاً بعد الانفتاح التجاري في أواخر عهد حكم القذافي (بداية الألفية الثالثة) وأنتشار الشركات بشكل مأهول في فثرة ما يسمى بليبيا الغد حيث يمكن للفرد الواحد أمتلاك العديد من الشركات، ومعظمها كانت حبراً على ورق، ففي تلك الفترة على سبيل المثال كنت أعرف شاب صغير السن يشتغل كفني بدوام جزئي في أحد معاملنا يساعد دكتور المادة في أعطاء العملي للطلاب لديه ثلاث شركات مسجلة رسمياً بأسمه في دوائر الدولة لا ادري كيف قام بذالك ولكنه ممكن.
معظم شركات الخدمات الطبية في بلادنا لا تعرف التخصصية وكأنها يجب ان تكون كذلك، متعددة المهام والأغراض، تتاجر وتستورد أي شيء يأتي من خلاله الربح المادي، ولا ابالغ حين أقول لكم أنه يمكن لهم المتاجرة حتى في المواشي واللحوم ، فقد التقيت مع مدير شركة كان يريد مني أعطاء دورة عن إدارة النفايات الطبية للعاملين لديه، كان صاحب شركة نظافة عامة ونقل قمامة وايضا إستجلاب سلع طبية وكان يتاجر في الأغنام عندما يقترب عيد الأضحى المبارك في كل سنة، لا توجد مشكلة في ذلك… فهم دائما يمتلكون المرونة الكبيرة في إجراء الصفقات التجارية (أو البزنس).
أما بالنسبة لمنذوبي هذه الشركات فهم نوعية خاصة جدا من البشر، متشابهين جدا، كأنهم يمتلكون نفس الجينات الوراثية مع اختلافات طفيفة، فتجدهم يمتازون ببرودة الأعصاب وعدم الأكترات بالأخرين والإلحاح المزعج لمعرفة ما يدور حولهم (بالعامية الليبية: التقصقيص) وهذا طابع قد يكون مشترك بينهم، تجدهم يتجولون بدون ملل في مؤسسات الدولة ووزارتها وهيئاتها الخدمية للحصول على صيد أو إقتناص فرصة تجلب لهم منفعة وهم على أتم الاستعداد لتوريد أي شيء تريده، اقول هذا بحكم تجربتي لمدة اربعة سنوات كرئيس لجنة المخلفات الطبية بوزارة الصحة، حيث تجدهم في الممرات يتسألون عن اللجان ورؤساء اللجان وماذا تريد تلك اللجان من تجهيزات وغيرها ليقدمون العطاء بالصيغة التي تريدها مع كل الأوراق التي تحتاجها، أوراق توكيل الشركة المصنعة الرئيسية أو الفرعية لا يهم… دائما توفير الأوراق ليست مشكلة… المهم أن تدفع وتدفع بسخاء ولك النسبة من ذلك، وأما الجودة فهذا أمر لا نتكلم عنه كثيرا في بلادنا فلكل مدير أو مسئول سعر معين يمكن لنا مناقشته على حده وبدوره سيتغاضي عن جودة تلك السلعة…!!! أقول هذا ولكن الجميع يعرف بأن لكل قاعدة شواد ولا يمكن التعميم، فلا يزال البعض يبدلون ما في وسعهم لإفادة البلد والحرص على ذلك مع الاستفادة الشخصية طبعاً.
عندما نظرت للورقة التي بين يدي وجدت نفس رقم الهاتف في نقالي وقد اتصل بي لعدة مرات ولم أرد عليه ربما كنت منغمساً في العمل وكان الهاتف صامتاً، فأتصلت به فأجابني رئيس الشركة بأسلوب راقي وكلمني بأسمى مباشرة بدون تكلف لأنه عرف رقمي وطلب مني زيارته في مكتبه بالشركة في إحدى ضواحي مدينة طرابلس، فحددنا الموعد وكان يريد لقاء قريباً جدا وقد اختار اليوم والوقت المناسب له ولي ..فذهبت اليه…. نسيت أن أذكر لكم أنه خلال أتصالي تحدت مدير الشركة عن البيئة وهمومها وقد اعجبتني تلك الكلمات لعشقي للبيئة وحمايتها وحبي لكل من يحبها، تم عرج خلال كلامه على ما قمت به من تأسيس النادي الليبي للمخلفات الطبية وكل الأنشطة التي قمنا بها أنا والزملاء، تم تكلم عن روعة موقع النادي على النت وحجم المعلومات التي به والفائدة الكبيرة للناطقي اللغة العربية التي سيجنوها من هذا الموقع العربي الفريد والمبسط والمتخصص في مشكلة دقيقة جدا تمس مجتمعاتنا العربية، الحقيقة أعجبني كلامه جدا وقد ذكر من ضمن ما ذكره انه يجب على الجميع دعم مثل هذه الأنشطة معنويا ومادياً، فرحت جدا بكلامه وقلت في نفسي ربما قد تحصلنا على ممول للموقع (Sponsor) لأنني مند فترة أبحث عن ممول لإعادة تكوين الصفحة في النت من جديد وتحديثها.
وصلت في الموعد المحدد واستقبلني مدير الشركة في مكتبه استقبالاً جيداً وبعد القهوة تناقشنا وتكلم كثيرا عن شركته وذكر أنها شركة ليبية ألمانية لها فرع هنا وأخر في المانيا وأنه في الأصل طبيب ترك التخصص وأنخرط في التجارة، تم تكلم عن هموم البيئة في ليبيا وقد عرض من ضمن ماعرضه علي أن أذهب أنا وزوجتي لحضور مؤتمر بيئي كبير سينعقد في دولة عربية سياحية وأن التكلفة ستغطيها شركته بالكامل مع الأقامة في فندق فخم جدا وكلام عن تعاون مشترك مستقبلي يضمنا مع بعض وأشياء مماثلة في ذلك السياق.
فقلت في نفسي “هذا كرم منه وعرض سخي… ولكن لا يوجد في وقتنا من يعطيك هبة مثل هذه حبا فيك أو في علمك فما هو المقابل ياترى؟”. المهم استرسلنا في الحديث حتى أفهم ما يجري حولي وكنت متشوقاً لمعرفة النهاية، لم يتكلم عن النادي الليبي ونشاطاته، ولم يذكره نهائياً، ففهمت بأن ذلك كان مدخل فقط لجلب إنتباهي في الهاتف، لم أهتم لذلك وأسترسلنا في الحديث حيث عرج في كلامه عن الهيئة العامة للبيئة وتكلم عن المحارق فأصبحت أفهم قليلاً قليلاً الهدف من كل ذلك النقاش. خلال تلك السنة والتي قبلها كنت مستشارا فنياً في مجال المخلفات الطبية لدى الهيئة العامة للبيئة في ليبيا وكنت رئيس لجنة تضم نخبة من البيئيين والمتخصصين لوضع شبه قانون ينظم إدارة المخلفات الطبية في ليبيا والذي سميا بعد إنجازه باللأئحة التفصيلية لإدارة المخلفات الطبية.
فقلت له لقد تحدتنا كثيراً ولم أفهم سبب قدومي حتى الأن فقال لي بأنني (أي شركته) قد أستجلبت محرقة كبيرة لأحدى الشركات النفطية الليبية الكبرى وقد طلبت الشركة منه ضرورة أحضار موافقة الهيئة العامة للبيئة عن مواصفات الجهاز وأنها تقنية لا تضر المجتمع وتعتبر صديقة للبيئة، ومن غير هذه الموافقة لن تقبل الشركة منه تلك المحرقة وهذا معناه خسائر كبيرة لشركته، وعندما سأل بعض من يعرفهم في الهيئة العامة للبيئة عن المسؤال فأعطوه أسمي لهذا أتصل بي عدة مرات ولهذا قام بذلك الاستقبال اللطيف وقدم ذلك العرض السخي.
من كلامه كان واثقاً بأن هذه الصفقة لن تتم بدون توقيعي، وقد استرسل في الحديث عن جودة تلك المحرقة والتقنية التي تظمها وأن شركته تسعى لخدمة البلاد بعد الانفتاح على أوروبا وأستجلاب السلع الجيدة وكلام من هذا القبيل، كان مجمل الحديث عام ومن طرف واحد فقط وكنت مستمعا جيدا، ولم يتكلم بتاتا عن التفاصيل الفنية لتلك المحرقة، وقد ذكر عدة مرات بأن توقيعي مهم لكي تستلم تلك الشركة منه المحرقة ويستلم هو أمواله.
كنت ساكتاً وأفكر في كل كلمة يقولها، تم خطر في بالي سؤال، فقلت له سأسالك سؤال واحد فقط فالرجاء أن تجبني عليه ببساطة، لكي نكمل نقاشنا، فقال لي تفضل أسأل ما تريد، قلت له أنت جلبت محرقة كبيرة إلى ليبيا وبالمواصفات التي تحدثت عنها، فقط قل لي “ماذا تريد أن تحرق؟” فنظر لي وسكت طويلا تم حرك رأسه وهو يهم بالكلام ولكنه سكت مرة أخرى تم قال لي لم أفهم سؤالك؟، قلت له سؤالي بسيط بما أنك أستجلبت تلك التقنية للحرق فما هو الذي تريد أن تحرقه؟ قال لي بتعجب، لحد الأن لم أفهم السؤال؟ فقلت له هناك العديد من المحارق، محارق خاصة بالنفايات المنزلية العامة ومحارق خاصة بالنفايات الطبية والأطراف والأعضاء البشرية، وهناك محارق للمخلفات الزراعية وهناك محارق لنفايات السلخانات والمدابح وهناك محارق لزيوت العربات وهناك محارق للسوائل الكيميائية الخطيرة وهناك محارق للنفايات الصيدلانية وأدوية العلاج الكيماوي وغيرها الكثير من الأنواع، وكل نوع من النفايات تختلف محرقته عن الأخرى، سؤالي ببساطة ماذا تريد أن تحرق؟.
فنظر إلى مدة طويلة في تعجب وكأنه مصدوم وقال لي “بصراحة لا أعرف ماهو الذي سنحرقه؟”، فقلت له أنت من استجلب هذا الجهاز وهذه التقنية وبكل هذا السعر ولا تعرف ماهو الغرض الذي جلبت له، فسكت من جديد تم قال لي وعلى ملامحه مسحة من الإحراج الواضحة “بصراحة لا أعرف ولكنهم محتاجين لمحرقة فقمت بتزويدهم بذلك”.
فأحسست في نفسي أنها صفقة تجارية مشبوهة بينه وبين شركة محارق أوروبية تعاني من الأفلاس ويساعدهم صديق لديهم نافذ بشركة نفطية ليبية، مع وجود بعض الأوراق الداعمة من الهيئة العامة للبيئة تكون الصفقة تامة ومربحة للجميع. المعروف عن شركات المحارق في اوروبا في الأونة الأخيرة أنها أصبحت تعاني من الركود والكساد التجاري بسبب عدم رواج صناعتها في الدول الاوروبية وبالأخص في العقد الأخير من القرن العشرين، فقامت بأغلق مصانعها نتيجة الحرب التي شنت على المحارق من قبل العلماء والناشطين البيئين ومنظمات المجتمع المدني بعد ظهور أدلة علمية دامغة عن المخاطر الصحية والبيئية الجسيمة لتلك المحارق سواء على الأفراد العاملين بتلك المنشأت أو المواطنين والقاطنين قرب تلك المحارق، وايضا بسبب المعايير البيئية الصارمة التي سنت خلال السنوات الأخيرة والتعقيدات التي رافقت ذلك، ففي غالبية دول العالم هناك سعي حثيت للتخلص من المحارق لديها فقامت بعض الدول بإجراءات صارمة منها أغلاق محارقها بحكم القانون وتوجهت لطرق بديلة أقل أضرار من حيث البيئة، فلم يكن أمام مصانع المحارق مفر من التوجه للدول العالم الثالث لترويج صناعاتها وبيع محارقها، فهو المتنفس الوحيد لتصدير منتاجاتهم، لأن دولة مثل دولتنا تطبق معايير سلامة اقل حدة وهذ في أحسن الأحوال أو أنها لا توجد بها تلك المعايير البيئية في الأساس.
فقلت له لتوضيح الأمر: أولا أنا فقط رئيس لجنة لوضع قانون ينظم إدارة النفايات الطبية في ليبيا كلفت من رئيس الهيئة العامة للبيئة ولست مخول بالقانون إعطاء اي موافقات أو تصريحات لجلب محارق أو غيرها من طرق المعالجة الأخرى، أحيانا فقط يطلبون مني الرأي الفني للمحرقة وجودتها بعد أن أعرف لماذا جلبت تلك المحرقة وما هو نوع النفايات التي سيتم حرقها والكمية وهل هذه الطريقة بها أضرار من حيث التلوث البيئي مثل أنبعاث الأبخرة السامة وهل يوجد بها مصفيات أو فلاتر أو أنها تعتمد طرق اخرى. وهو رأي فني فقط ولا أعطي تصريحات موافقة أو جلب أجهزة.
واسترسلت في الكلام وقلت له: كان من المفروض عليك قبل إستجلابك تلك المحرقة أن يتم مناقشة الجهة التي تريد تلك المحرقة قبل ذلك وتسألهم لماذا يحتاجون المحرقة؟ وماذا يريدون أن يحرقوا؟ وما هي حجم الكميات المتوقعة للنفايات؟ وما هي المعايير الفنية الأخرى البيئية التي يريدونها وما هي المساحة التي ستقام عليها المحرقة؟، العديد من الأسئلة التي ستكون مساعدة لك في أختيار واستجلاب نوع المحرقة تكون أنت راضي عنها وهم راضون كذلك وموافقة للمواصفات التي يريدونها. وكان الأجدر بك كذلك أن تزور الهيئة العامة للبيئة قبل الشروع في اختيار المحرقة للتأكد من المواصفات التي قد تطلبها الهيئة أو ربما لديهم توصيات واشتراطات خاصة تكون دليل لك لإختيار تلك المحرقة واستجلابها. بذلك تكون الصورة واضحة وكاملة لديك.
قلت في نفسي: لا ادري كيف يقوم البعض بإجراء تلك الصفقات التجارية، أنا لست تاجراً ولن أكون تاجرا في حياتي ولكن من اساسيات اشتراء السلعة التي اريد بيعها هي معرفتي المسبقة باحتياج الأخرين لها بعدها أقوم بتوفيرها لهم بالمواصفات التي يريدونها. لماذا لم يسأل نفسه “لماذا تريد تلك الشركة النفطية المحرقة؟” وكيف اجلب سلعة وانا لا أعرف في ماذا هي تستعمل؟. مشكلتنا في دولنا المهم إجراء الصفقة التجارية والتفاصيل تأتي بعد، وللأسف دخل لهذا المجال كل من أمتلك القليل من المال وقام بأنشاء شركة ولا يفقه في ابجديات البيع والشراء شيء.
في الختام، شكرت مدير الشركة على أستقباله اللطيف واعتذرت منه عن التوقيع على الأوراق وبالطبع إلُغيت فكرة الزيارة للمؤتمر البيئي في الدولة العربية والأقامة في ذلك الفندق الفخم مع زوجتي… كما ألغيت فكرة التمويل المالي لموقع النادي الليبي للمخلفات الطبية… !
البعض منكم سيتسأل.. هل تمت الصفقة… الى حد الان صدقوني لا ادري…
ولكن من مجريات ما نراه على الواقع…انا على يقين بأنها قد تمت الصفقة…
وأخيراً، عندما فكرت في ذلك السؤال الذي حيرني وحير رئيس الشركة وربما حيركم أنتم كذلك… ماذا تريد أن تحرق؟
لقد عرفت إجابته… وكانت الإجابة أمام عيوني مباشرة وواضحة جدا… نقودنا هي التي أحترقت… أموالنا هي التي أحترقت…
ضمائر البعض منا هي التي أحترقت وأصبحت رماد… هباء منثورا…
القصة الثانية: مندوبين ضد شركاتهم
موقف عشته أثبت لي بأنه أي أحد يمكن أن يكون مندوب لشركة أو ممثل شركة عالمية، وحدث هذا عندما كلفت مند سنوات كعضو لجنة بالمركز الوطني الليبي لمكافحة الأمراض بتقييم سلعة وهو جهاز معالجة نفايات كانت تنتجه شركة فرنساوية محترمة، وكانت عدة شركات تتنافس أمامنا للحصول على عطاء شراء من المركز لعدة فروع، وكان منذوب الشركة الليبي الذي لديه وكالة من الشركة الفرنساوية الأم سيقوم بالقاء محاضرة عن ذلك الجهاز لترويج له، وكانت اول الاشياء التي ستقع عينك عليها في المندوين هو مظهرهم، ملابسهم وطريقة تحدتهم وتصرفهم بشكل عام، وهي تعطي ما يعرف بالانطباع الأول، وكلنا يعلم ماهو قوة الانطباع الأول (First Impression) في نفوسنا وفي اتخاد قراراتنا التي تأتي بعدها. الانطباع الاول كلمة لا أنساها وهي من الكلمات الأولى التي تعلمتها في بداية دراستي في أكاديمية اللغة الأنجليزية، حيث ركز استاذنا الرائع حينها مستر مارك في المحاضرات الأولى على ضرورة أن نحسن نظرة الأخرين لنا منذ اول لقاء فهو الأهم لأنه سيخرج منها الأنطباع الأول لدى الأخرين، اللقاءات التي تأتي بعدها ليست بتلك الأهمية لأن الأنطباع قد حدث.
الانطباع الأول عن المندوب كان أنطباع سيء بسبب مظهره ونوعية ملابسه وعدم تناسقها، ليس هناك رابط مشترك في ملابسه مع احساسك كأنه إجبر على الحضور أمام اللجنة بالقوة وفي زمن قياسي، وعندما بدء المندوب في إلقاء محاضرته أمام اللجنة التي تتكون مني ومن أستاذين جامعيين مشهود لهم بالكفاءة العلمية، بدءت الكارثة، حيث كان من المفروض في المندوب أن يحسن صورة السلعة التي يروج لها لكي يتم الاختيار عليها، ولكن ما قام به منذوب الشركة الليبية عكس ذلك، أنه أساء كل الأساءة لتلك السلعة بسبب ضعف الأداء في الألقاء وبسبب عدم معرفته الدقيقة لتلك السلعة وبسبب أخطائة الكبيرة في المواصفات الفنية لتلك السلعة التي كنت انا شخصيا أفضلها على الكثير من السلع الأخرى في مجالها وهذا بحكم التجرية العملية وبسبب خبرتي المسبقة ومقارنتها بالسلع الأخرى في عدة مناسبات سابقة. شرح المنذوب أمامنا كان بعيد كل البعد عن ذلك الجهاز وموصفاته كأنه لم يسبق له أن رأى ذلك الجهاز الإ تلك اللحظة، بكل صراحة كان عاهة من العاهات بكل ما تعنية هذه الكلمة من معاني. ولا ادري حجم الضرر الذي ستجنيه تلك الشركة من وراء ذلك المندوب، أنا على يقين أن الشركة الأم تصرف الملايين في سبيل تحسين صورتها ومنتوجها لكي ينافس الأخرين ولكن بوجود مثل هذا المندوب فهم خاسرن دوما.
عدة أسئلة حيرتني بخصوص هذه النقطة بالذات… لماذا لا تراقب الشركات مندوبيها؟… لماذا لا يتأكدون من تمكن المندوبين ومعرفتهم بتلك السلعة التي يروجون لها؟… بعمل دورات مثلاً وأعطاء محاضرات لهم وتجربتهم لمعرفة كفاءاتهم… لماذا لا يتأكدون من مظهر المندوبين وحسن لياقتهم ولباقتهم ومناسبته لسمعة شركتهم؟..
يجب أن تضع الشركة التي تريد المحافظة على سمعتها المعايير الصارمة لأختيار مندوبيهم…لأنه ببساطة جدا المندوب هو وجه الشركة الذي ستقابل به الأخرين… وهو كما نقول في ليبيا أم أن يكون وجه قبول أو وجه رفض… أعرف شركات تشترط في المندوبين الوسامة وجمال المظهر وغيرها من الحضور الشخصي القوي لكي يجذبون الأخرين لهم… المندوب مثل العارض في المعارض، يجب أن يكون حسن المظهر فهذا اول الأشياء التي تجذب بها المارة أمام ما تعرضه…
في معظم دول العالم تجد الكثير من الشركات العالمية لديها معايير صارمة جدا في مندوبيهم أو مندوباتهم من ناحية جمالية كأنهم عارضين أو عارضات أزياء… لا اقول مثل هذا ولكن شيء مقبول… شيء مقبول يرجع بالنفع على الشركة.
القصة الثالثة: التجارة بالنفايات الخطرة على الطريقة الليبية.
اتصل بي مدير شركة هندسية متخصصة في البناء والعمارة وقال لي بأنه كان يبحث عنى منذ فترة طويلة فقد وجد اسمى في النت ورأى علاقتي مع إدارة النفايات الطبية، فقلت له تفضل يمكن لي مساعدتك على حسب مقدرتي، فقال لي بصراحة لقد تحصلت على كمية كبيرة من الأدوية المنتهية الصلاحية وغيرها من النفايات الطبية الخطرة (مجموعة حاويات) كصفقة من وزارة الصحة لكي أتخلص منها بمعرفتي مقابل مبلغ مالي عن كل كيلو جرام منها. فهل هناك طريقة للتخلص من تلك النفايات مثل المحارق وغيرها في طرابلس؟.
فجأني بالسؤال، وخاصة أن كرته الشخصي مكتوب به شركة هندسية للبناء، فقلت له قبل كل شيء أجبني من فضلك: هل شركتك متخصصة في مجال معالجة والتخلص من النفايات الطبية أو اي نوع أخر من النفايات الخطرة؟ فقال لي لا. فقلت له: هل أنت شخصياً متخصص وملم بمجال معالجة النفايات الخطرة؟ فقال لي ببساطة لا ولكنها صفقة مالية مربحة وتحصلت عليها من قبل وزارة الصحة ولا اريد ان اضيعها. فتعجبت جدا ليس منه ولكن لمن أعطاءه تلك الصفقة، هل قوة العلاقات الشخصية تصل إلى أن تعطي هذه الكمية من المخلفات الطبية الخطرة إلى مقاول شركة هندسية ليس له علاقة نهائيا لا من قريب ولا بعيد ولا يفقه شيء في مجال معالجة النفايات الخطرة للتخلص منها.
فقلت له وبشكل قاطع: لحد الأن لا توجد في طرابلس والمناطق المحيطة بها طريقة جيدة وبيئية للتخلص من تلك النفايات الطبية الخطرة (النفايات الصيدلانية) ولا توجد محارق بدرجات حرارة عالية للتخلص منها. فأجابني بسرعة وبصوت عالي وواثق من نفسه… بأنه هناك محرقة بمدينة الزاوية تستعملها البلدية وأستطيع أن أنقلها إلى هناك فلدي علاقات قوية في كل مكان.
فقلت له لقد زرت تلك المحرقة بالذات ومعظم المحارق المعروفة لدينا في المنطقة الغربية قد تصل درجة الحرارة بهم الى 500 درجة مئوية وهذا في أفضل حالتها وانت تحتاج إلى محرقة بدرجة حرارة لا تقل عن 1200 درجة مئوية. وفوق كل ذلك أنا متعجب جدا ولا أدري كيف تم إعطائك هذه الكمية من النفايات الخطرة فهذا تجاوز قانوني وأخلاقي ولا يجوز نهائيا وهذا تصرف ضار للمجتمع ككل، فلو وقعت هذه الكمية في ايدي عابثة لكان ضررها كبير يمس الجميع، وهذه يطلق عليها تجارة غير مشروعة في النفايات الخطرة وتعاقب عليها كل القوانين.
فقال لي بنوع من التهكم: كان من المفروض أن لا أتي أليك منذ البداية… واستطيع في النهاية أن أعمل حفرة بمزرعتي وأحرق تلك الحاويات جميعها بدون مساعدة أحد.. فقلت له بهدوء: نعم تستطيع أن تفعل ذلك فكما استطعت الحصول على كل هذه الكمية بسهولة… تستطيع التخلص منها بحرقها أو رميها اينما تريد.. وتستطيع حتى بيعها…
انتهاء حوارنا وأنا في حالة حزن وتأسف كيف يحدث مثل هذا التصرف… لقد تألمت كثيرا من ذلك اللقاء وأنا على يقين بأنه قد تخلص من تلك الكمية الكبيرة من النفايات الخطرة بطرقه الخاصة… لماذا.. لأنني احسست بأن ذلك المدير بالذات وفي سبيل المال لا يتوانى عن فعل أي شيء.. فقد كانت هذه شخصيته أو ربما الأنطباع الذي خرجت به من لقاءه معي.
في الختام، هذه ثلاث قصص عشتها شخصياً وأحببت أن أرويها لكم وابين لكم الخلل الكبير التي تعاني منها شركاتنا… جعلتني هذه المواقف أتسأل كثيرا عن بعض الأمور…
متى نصل لمرحلة يفهم مدراء الشركات حدودهم في التجارة؟… متى نصل لمرحلة يعلم فيها أصحاب الشركات ويفرقون بأن هذا الامر يجوز وهذا لا يجوز؟… متى نصل لمرحلة تكون بها شركاتنا الجالبة للتقنية الجديدة ذات مصداقية بعيدا عن المكسب المالي فقط؟… متى نفهم معنى كلمة المصداقية؟… لماذا هذه الكلمة تجدها لدى الشركات الغربية أكثر منها في شركات دول العالم الثالث؟…. لماذا تسعى الشركات بالدول الغربية وراء تطبيق تلك الكلمة في اعمالها؟… لماذا لا تكون لدينا مصداقية عندما نبيع سلعنا ونروج لها؟…
متى ننظر لمصلحة البلاد والعباد قبل مصالحنا؟… لماذا لا يكون أبناء هذه البلد هم الأحرص علي بلادهم؟… لماذا… لماذا… لماذا… دائما هنالك أسئلة كثيرة…
أحسنت النشر أستاذي. فعلا إنه لشيء مؤلم عندما نرى أن المصداقية في التعامل مفقودة، وأن المصالح الشخصية تسبق المصلحة العامة للبلاد وللعباد
بارك الله فيكم وشكرا جزيلا