المخلفات الطبية البيطرية: مصدر كبير للعدوى البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية للإنسان.
يعتبر أكتشاف المضادات الحيوية منذ أكثر من سبعين سنة من أهم الأكتشافات الطبية التي حدتث في التاريخ. ساهم هذا الأكتشاف في أنقاذ حياة الملايين من البشر وشفاءهم من العديد من الأمراض المستعصية التي كانت مصدر قلق كبير للأطباء والمعالجين وكانت تؤدي إلى وفيات بأعداد كبيرة جدا حتى أن البعض من تلك الأمراض كانت إصاباتها بشكل جائحات وبائية تجتاح مدن بأكملها في عدة دول.
رافق هذا الأكتشاف المهم منذ انتشار أستعماله لأول مرة زيادة مفرطة في أستخدام المضادات الحيوية في قطاع العناية بالحيوانات المنتجة للغذاء وفي الطب البيطري والصحة الحيوانية بشكل كبير لغرض حماية الحيوانات من الأمراض وزيادة أعدادها ولتزويد البشر بمنتوجات حيوانية صحية سليمة لتسد طلب السوق العالمي المتزايد عليها خلال العقود الماضية.
هذا الأستعمال كان مثمراً جدا في البداية في زيادة الحيوانات المنتجة للغذاء وفي جودتها وصحتها للاستهلاك البشري ولكن مع مرور الزمن والأفراط في التعامل به من قبل المربين غير المدركين لمخاطر هذه المضادات الحيوية أصبحت الأضرار الصحية جلية وواضحة للجميع.
في أحدى المقالات الطبية ذكر الكاتب أنه في كل عام يستخدم ما بين 60 – 240 مليون كيلو جرام من المضادات الحيوية في العناية بالماشية على مستوى العالم وأن ثلاثة أرباع هذه الكمية هي فئة المضادات الحيوية الهامة في الطب البشري. كما ذكر تقرير تابع لمنظمة الصحة العالمية بأن بعض الدول تنفق 80% مما تستهلكه من المضادات الحيوية المهمة طبياً في قطاع العناية بصحة الحيوانات.
لقد أنقذت المضادات الحيوية الملايين من الأرواح البشرية ، وساهم استخدامها بشكل كبير في تحسين صحة الإنسان والحيوان ورفاهيتهم. كما أدى استخدام المضادات الحيوية في الحيوانات المنتجة للغذاء إلى إنتاج حيوانات أكثر صحة وإنتاجًا وأنخفض معدل انتشار الأمراض والوفيات بين الحيوانات وإنتاج كميات وفيرة من الأغذية عالية الجودة ومنخفضة التكلفة للاستهلاك البشري. على الرغم من كل هذه الفوائد، إلا أن هناك قلق كبير من حيث الصحة العامة وسلامة الأغذية حول استخدام مضادات الميكروبات في الحيوانات المنتجة للغذاء.
ماهي العلاقة بين زيادة أستخدام المضادات الحيوية في الحيوانات المنتجة للغذاء وبين الإنسان؟
حالياً، من أهم المشاكل الطبية التي تواجه العالم هذه السنوات هي ظهور الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية (Antibiotic Resistance Bacteria)، حيث أصبحت إصاباتها منتشرة وحجم الضرر التي تسببه كبير ففي السنة الواحدة تقتل هذه البكتيريا أكثر من 700 ألف شخص سنوياً، وفي أمريكا وأوروبا لوحدها فقط تحدث أكثر من 50 ألف وفاة كل سنة بسبب هذه الميكروبات، وهذا الأرقام في تزايد كبير بسبب إزدياد أعداد البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية وأحتمال بأن هذا العدد سيتضاعف بمقدار عشرة أضعاف بحلول عام 2050.
أكد المختصين والبحُاث في هذا المجال وبدون أي مجال للشك بأن من أهم أسباب تزايد الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية وإصاباتها المتكررة للإنسان هو الاستخدام غير السليم للمضادات الحيوية المنتشر على نطاق واسع في الزراعة، لتعزيز النمو السريع في الحيوانات وتغذية الطلب العالمي المتزايد على البروتين الحيواني أو عند استخدامها في تحسين المنتوجات الأستهلاكية الحيوانية كالألبان وغيرها. هذه البكتيريا المقاومة التي تطورت في الحيوانات أثرت مباشرة على قدرتنا على علاج الألتهابات في البشر. فخلال العقود الماضية شهدت المستشفيات والعيادات حول العالم ظروف صعبة في علاج المترددين عليها بشكل متزايد نتيجة أستخدام المضادات الحيوية غير مقنن.
إن الإفراط في استعمال المضادات الحيوية وإساءة استعمالها في الإنسان والحيوان يسهمان في تعاظم خطر مقاومة تلك المضادات. وقد طوّرت فعلاً بعض أنواع البكتيريا المسببة لالتهابات خطيرة للإنسان مقاومة لمعظم العلاجات المتاحة أو كلّها، ولا يوجد إلا عدد جدّ قليل من الخيارات الواعدة التي يتواصل إعدادها في مجال البحوث .
حسب تقديرات مركز الأوروبي لمنع والتحكم في الأمراض (European Centre for Disease Prevention and Control) أن نسبة الإصابات بعدوى في مجرى الدم (Bloodstream infections) بالبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية في اوروبا سنة 2007 كان حوالي 386 ألف حالة سببت في 25 ألف حالة وفاة وحوالي أكثر 2.5 مليون يوم قضاها المرضى بالمستشفيات (Hospitalization days).
ماهي الأسباب من وراء ظهور هذه الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية في مجال تربية المواشي بالذات خلال السنوات الماضية
هناك العديد من الأسباب وراء ظهور الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية في مجال تربية الحيوانات المنتجة للغذاء نلخصها في النقاط التالية:
- يؤدي الاستخدام العشوائي الغير مرشد للمضادات الحيوية إلى القضاء على البكتيريا الحساسة للأدوية، ولكنه يخلق بيئة ملائمة للبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، مما يجعل مضاداتنا الحيوية غير فعالة بشكل متزايد.
- كما إن الإفراط في استخدام المضادات الحيوية لعلاج الحالات الطبية البيطرية التي تكون غير ضرورية أو غير فعالة هو سبب رئيسي لمقاومة المضادات الحيوية.
- أن التخلص غير السليم من نفايات الحيوانات الطبية (Veterinary Medical Waste) يلوث البيئة بمخلفات بها المضادات الحيوية، مما يجعل من السهل على البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية أن تتطور وتنتشر.
يمكن أن تنتقل الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية إلى البشر بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال استهلاك الغذاء والاتصال المباشر أو غير المباشر عبر مواد من النفايات الطبية البيطرية.
يمكن للبكتيريا المقاومة أن تسبب تأثيرات صحية خطيرة مباشرة أو عن طريق نقل صفاتها المقاومة للمضادات الحيوية إلى جراثيم أخرى مسببة للأمراض، مما يتسبب في ظهور أمراض يصعب علاجها وبالتالي ارتفاع معدلات حدوث الأمراض وزيادة نسبة الوفيات.
ما هي الحلول المقترحة بشأن الحد من أنتشار تفاقم مشكلة الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية.
أقرت منظمة الصحة العالمية بأهمية مشكلة أنتشار الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية وأعتمدت “خطة العمل العالمية” بشأن مقاومة مضادات الميكروبات حيث أقترحت تنفيذ تدخلات لمكافحة مقاومة مضادات الميكروبات، بوسائل منها تقليل الاستعمال غير الضروري لمضادات الميكروبات في الإنسان والحيوان وتشدّد الخطة أيضاً على ضرورة اتباع نهج شامل لعدة قطاعات بشأن “الصحة الواحدة” في مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات، بحيث ينطوي النهج على بذل جهود من الأطراف الفاعلة من عدّة تخصّصات، بما فيها الطب البشري والطب البيطري. كما اعتمدت جمعيتا منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة والمنظمة العالمية لصحة الحيوان في عام 2015 قرارات تؤيد خطة العمل العالمية بشأن مقاومة مضادات الميكروبات في إطار اعترافهما بالحاجة الماسة إلى اتخاذ إجراءات مشتركة بين القطاعات للتصدي لمقاومتها.
كما أصدرت منظمة الصحة العالمية عدة توصيات ومبادئ توجيهية بشأن استعمال مضادات الميكروبات المهمة من الناحية الطبية في الحيوانات المنتجة للغذاء كمحاولة للحد والتقليل من أنتشار الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية كالتالي:
التوصية الأولي:
بخصوص استعمال مضادات الميكروبات بشكل عام أوصت المنظمة بإجراء تخفيض شامل في استعمال جميع أصناف مضادات الميكروبات المهمّة من الناحية الطبّية في الحيوانات المُنتِجة للغذاء.
التوصية الثانية:
بخصوص استعمال مضادات الميكروبات في زيادة النمو أوصت بفرض قيود شاملة على استعمال جميع أصناف مضادات الميكروبات المهمّة من الناحية الطبّية في الحيوانات المُنتِجة للغذاء من أجل زيادة نموها.
التوصية الثالثة:
بخصوص استعمال مضادات الميكروبات لأغراض الوقاية (في حالة غياب المرض) توصي بفرض قيود شاملة على استعمال جميع أصناف مضادات الميكروبات المهمّة من الناحية الطبّية في الحيوانات المُنتِجة للغذاء لأغراض الوقاية من الأمراض المعدية غير المُشخّصة بعدُ سريرياً.
التوصية الرابعة:
بخصوص استعمال مضادات الميكروبات لأغراض علاج المرض ومكافحته (عند الإصابة به) تقترح ألا تُستعمل مضادات الميكروبات المُصنّفة على أنها حاسمة الأهمية بالنسبة إلى الطب البشري لأغراض مكافحة انتشار أمراض معدية مُشخّصة سريرياً تُحدّد في قطيع من الحيوانات المُنتِجة للغذاء. ولأغراض علاج الحيوانات المُنتِجة للغذاء والمُصابة بأمراض معدية مُشخّصة سريرياً.
توصي منظمة الصحة العالمية بأن يتوقف المزارعون وصناعة الأغذية عن استخدام المضادات الحيوية بشكل روتيني لتعزيز النمو والوقاية من الأمراض في الحيوانات السليمة.
أما بخصوص أفضل السبل لمنع أنتقال الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية من المخلفات البيطرية فيأتي عن طريق أتباع الطرق السليمة لجمع ونقل ومعالجة والتخلص النهائي من تلك المخلفات (Veterinary Medical Waste Management) بحيث يتم التعامل معها كم يتم التعامل مع المخلفات الطبية في داخل المستشفيات، فيتم جمع المخلفات البيطرية الحادة في حاويات خاصة من البلاستيك المقوى المقاوم للثقب بالإبر والحقن المستعملة لإعطى الدواء والتحصينات والمشارط المستعملة لعلاج الحيوانات، ويتم كذلك التخلص من بقايا الحيوانات المريضة أو الميتة وأنسجتها وبقايا مشيماتها بعد الولادة عن طريق أكياس من البلاستيك المقوى وتعالج بالحرارة عن طريق الأوتوكليف أو يتم التخلص منها بالمحارق المخصصة لهذا العمل مع أخذ الجوانب البيئية والصحية في الأعتبار، كما يتم التخلص من روث الحيوانات المريضة بالطرق السليمة لمنع أنتشار الميكروبات منها، والتخلص من بقايا الأدوية والمخلفات الصيدلانية التي استخدمت في علاج الحيوانات بالطرق الملائمة لهذا النوع من المخلفات.
الصور فوق: تظهر سوء التعامل والأهمال في التخلص من النفايات الطبية البيطرية في إحدى محطات تربية الحيوانات، وهذا الأهمال أحد الأسباب في أنتشار الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية.
في الختام،،، أن مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية المتوفرة لدينا حالياً أصبحت تتزايد بأستمرار بشكل كارثي، وفي نفس الوقت إمكانيات أكتشاف مضادات حيوية فعالة لعلاج الأمراض أصبحت تتناقص بشكل مخيف. فالإيقاف النهائي لاستمعال المضادات الحيوية في العناية بالمواشي سيسبب مشاكل صحية كبيرة وسيؤثر في الإنتاج والنواحي الأقتصادية للعديد من الدول المعتمدة على هذه التجارة كمصدر دخل وطني وحيد. ولكن نحن محتاجين لأستمعال هذه الأدوية بحدر شديد في الحالتين الطب البشري والطب الحيواني. وأيضا نحن محتاجين لأدوات الكشف والتشخيص السريع للمرض لتحديد العلاج المناسب والصحيح بسرعة، أيضا نحن محتاجين للبحث عن سبل جديدة وبديلة للعناية بالحيوانات في محطات التربية بدل الأستخدام المفرط فيه للمضادات الحيوية.
وأرجو في النهاية أن لا نصل إلى مرحلة كما ذٌكرت في بعض الورقات العلمية بأننا كبشر ربما يأتي علينا يوم في المستقبل لن يكون لدينا مضاد حيوي فعال لبعض الأمراض، وهذه واحدة من أكبر مخاوفنا الطبية، حينها سيكون حجم الأضرار كبير، أضرار صحية وأضرار إقتصادية وأضرار إجتماعية.
المراجع:
منظمة الصحة العالمية (2017). المبادئ التوجيهية للمنظمة بشأن استعمال مضادات الميكروبات المهمّة من الناحية الطبّية في الحيوانات المُنتِجة للغذاء. الملخّص تنفيذي 1. (http://www.who.int/foodsafety/publications/cia_guidelines/en)
Bonnie M. Marshall and Stuart B. Levy. (2011). Food Animals and Antimicrobials: Impacts on Human Health. Clinical Microbiology Reviews, Oct. 2011, p. 718–733 Vol. 24, No. 4
European Centre for Disease Prevention and Control, European Medicines Agency. The Bacterial Challenge: Time to React. A Call to Narrow the Gap Between Multidrug-Resistant Bacteria in the EU and the Development of New Antibacterial Agents. European Centre for Disease Prevention and Control; 2009. Available from: http://www.ecdc.europa.eu/en/publications/Publications/0909_TER_The_Bacterial_Challenge_Time_to_React.pdf. Accessed December 15, 2014.
Maria Angeles Argudín , Ariane Deplano , Alaeddine Meghraoui , Magali Dodémont , Amelie Heinrichs , Olivier Denis , Claire Nonhoff and Sandrine Roisin . (2017). Bacteria from Animals as a Pool of Antimicrobial Resistance Genes. Review. Antibiotics 2017, 6, 12;
McDermott PF, Zhao S, Wagner DD, Simjee S, Walker RD, White DG.(2002). The food safety perspective of antibiotic resistance. Anim Biotechnol. 2002 May;13(1):71-84.
O’Neill, J. Tackling Drug-Resistant Infections Globally: Final Report and Recommendations. The Review
Oliver SP1, Murinda SE, Jayarao BM. (2011). Impact of antibiotic use in adult dairy cows on antimicrobial resistance of veterinary and human pathogens: a comprehensive review. Foodborne Pathog Dis. 2011 Mar;8(3):337-55.
on Antimicrobial Resistance; HM Government and the Wellcome Trust: London, UK, 2016.
Vangelis Economou and Panagiota Gousia (2005). Agriculture and food animals as a source of antimicrobial-resistant bacteria. Infection and Drug Resistance 2015:8. 49–61
WHO (2018). Antibiotic resistance. http://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/antibiotic-resistance
WHO. (2017). Stop using antibiotics in healthy animals to prevent the spread of antibiotic resistance. http://www.who.int/news-room/detail/07-11-2017-stop-using-antibiotics-in-healthy-animals-to-prevent-the-spread-of-antibiotic-resistance.
O’Neill Jim. (2014). Antimicrobial Resistance: Tackling a crisis for the health and wealth of nations. The Review on Antimicrobial Resistance. the Wellcome Trust and the UK Department of Health. https://amr-review.org/
اترك تعليقاً