تغير المناخ العالمي وعلاقته بالميكروبات الممرضة
تغير المناخ العالمي (Global climate change) أصبحت ظاهرة حقيقية نعيشها في كوكبنا الأرض، أكدها العلماء في العديد من الدراسات والأبحاث فحرارة كوكب الأرض آخذة في الارتفاع بسبب إنبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة عن الأنشطة البشرية وأهمها غاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث من حرق الوقود الأحفوري حيث ازدادت مستويات ثاني أكسيد الكربون في الهواء من 280 جزء في المليون في عصر ما قبل الصناعة إلى 379 جزء في المليون. والعلماء غير متفائلين من أنخفاض مستويات التلوث بسبب نمط الحياة التي نعيشها والزيادة السكانية وأستخدامات الطاقة ومسارات التنمية التي أختارها العالم ستؤدي حتما إلى إلى أرتفاع مستمر في الحرارة وتغيرات مناخية مستمرة تكون نتائجة أسوء مما نتوقع (WHO, 2008).
ورد في تقرير منظمة الصحة العالمية في سنة 2008 “إن احترار المناخ العالمي أصبح حقيقة مفروغ منها وتدل عليها الزيادات الطارئة على المتوسط العالمي لدرجات حرارة الهواء والمحيطات، وانتشار ذوبان الثلج والجليد على نطاق واسع وارتفاع المتوسط العالمي لمستوى سطح البحر. وهناك إحدى عشرة سنة من السنوات الاثنتي عشرة الممتدة من 1995 إلى 2006 صنفت ضمن أكثر اثنتي عشرة سنة احترارًا في سجل درجات الحرارة السطحية في العالم منذ عام 1850.”
تغير المناخ العالمي سيكون له أثر كبير في أنتشار الأمراض المعدية، العديد من العلماء توقعوا أن أرتفاع درجة الحرارة في بعض المناطق سيغير آلية والمجال الجغرافي لأنتشار أمراض مثل الكوليرا والملاريا وغيرها، وزيادة الأمطار ستكون حافز لتكاثر نواقل المرض مثل البعوض والقراد والقواقع. أيضا زيادة حرارة السطح والجو سيزيد من كثافة وتكرار فترات هطول الأمطار وحدوث فيضانات والتي ستكون سبب في زيادة أمراض الأسهال المعوية وأمراض نواقل المرض المعدية الأخرى (Madeline Drexler, 2011).
باحثين أكدوا بأن موجات الحر التي مرت بها أمريكا في سنة 1999 في وسط وغرب القارة كانت السبب في حدوث أوبئة بالأمراض الفيروسية مثل فيروس غرب النيل (West Nile Virus) ويرجع هذا لتسريع المناخ الدافيء تكاثر البعوض ومراحل أستنساخ الفيروسات داخل معدة الحيوانات، أما علماء أخرين فربط بين تكاثر وحدوث الأمراض المعدية وبين التغيرات المناخية لمدد قصيرة، كما أكدوا ان الأمراض المنقولة بالحشرات زادت من وثيرتها بسبب ظاهرة الأحتباس الحراري (global warming phenomena)، أن أرتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط سقوط الأمطار وازدياد الرطوبة أمور تؤثر على انتقال الأمراض التي تحملها النواقل بواسطة المياه والأغذية (Madeline Drexler, 2011)، فالأمراض التي تحملها النواقل تقتل حاليًا أكثر من 1.1 مليون شخص حول العالم سنوياً. وأمراض الأسهال تقتل 1.8 مليون شخص (WHO, 2006 ) . وتشير دراسات بأن تغير المناخ سيزيد عدد المعرضين للإصابة بطفيل الملاريا في أفريقيا بمقدار 90 مليون شخص مع نهاية عام 2030 (Hay SI et al. 2006)، كما ذكر باحثين اخرين بأن عدد المعرضين لمخاطر الإصابة بحمى الضنك (dengue fever) سيزيد بمقدار ملياري شخص بحلول الثمانينات من القرن الحادي والعشرين (Hales S et al. 2002.).
“إن تغير المناخ سيؤثر تأثيرًا سيئًا للغاية على البشرية من عدة نواحي:
درجات حرارة الهواء الشديدة وتلوث الهواء خطر على الصحة بشكل عام.
الفيضانات ونوبات الجفاف والمياه الملوثة تزيد مخاطر الإصابة بعدوى الميكروبات الممرضة.
التأثيرات المناخية في الزراعة تهدد بزيادة سوء التغذية.
المناخ الأكثر تطرفًا وتقلبًا يمكن أن يدمر المنازل والمجتمعات.
تغير المناخ يجلب مشاكل جديدة في مجال مكافحة الأمراض” (WHO, 2008).
العديد من الأمراض الأخرى المنقولة بالحشرات ستتأثر بتغير المناخ ايضا، دراسة ذكرت بأن تغير المناخ سيوسع من مساحة الأماكن التي يتواجد بها طفيل البلهارسيا في الصين (, Zhou XN et al, 2008)، وأن لن تقتصر أضرار الأمراض المعدية على المناطق المدارية النامية فقط بل سينتشر على نطاق أوسع عالمياً، فعلى سبيل المثال من المتوقع أيضًا أن يؤدي تغير المناخ إلى تغير توزيع أمراض مثل مرض لايم (Lyme disease) والتهاب الدماغ الذي ينقله القراد (Tick-Borne Encephalitis)، وإلى زيادة معدلات الإصابة بالسلمونيلا وغيرها من العداوى المنقولة بالأغذية في أوروبا (2005, Menne B, Ebi K.) وأمريكا الشمالية (2006 ,Ebi KL et al).
التأثيرات ستكون كبيرة وخاصة في الدول التي لم تعتاد تلك الميكروبات، فعندما يظهر ميكروب ممرض في مواقع جديدة وفي دول لأول مرة فهذا معناه أن الأجهزة المناعية للسكان غير مجهزة لتصدي له وأيضا عدم وجود برامج أو خبرة مسبقة لمحاربة ومقاومة ومعالجة المرض وهذه كله سيحتاج لتغطية مالية كبيرة لإنجازها بالصورة السليمة وفي وقت زمني قصيرة لتفادي حدوث خسائر كبيرة في الأرواح وهذه العملية تثقل كاهل الخدمات الصحية والأقتصادية للدولة. عندما أصابت جزيرة رونيون مرض معدي (Chikungunya disease) ينقل بواسطة البعوض سنة 2005، فأصاب واحد من كل عشرة من السكان كان لهذا تأثير كبير وسبب في نقص السواح وتراجع السياحة التي كانت أهم قطاع خذمي ومصدر للدخل بالجزيرة مما ساهم في خسائر مالية كبيرة (WHO, 2008).
نواتج التغير في المناخ مثل الكوارث المناخية القاسية التي أصبحت تحدث بكثرة مثل الأعاصير والحرائق والجفاف والفيضانات تسبب في هجرة البشر بعد حدوث الكوارث المناخية والذي يساهم في أنتشار الأوبئة والأمراض المعدية بينهم بسبب تغير أماكن السكان وبسبب نقص المياه والغذاء أو عدم وجود منظومة جيدة للصرف الصحي والنظافة العامة أو الأزدحام بالمخيمات للأقامة المؤقتة وضعف نظام الرعاية الصحية في مثل هذه الكوارث الطبيعية. مع تغير المناخ أزدادت معدالات حدوث الكوارث المناخية وأشتداد قوتها ففي تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بأن في عام 2006 وحده عاني 117 مليون شخص من نحو 300 كارثة طبيعية بما في ذلك الجفاف الشديد في الصين وإفريقيا والفيضانات الكاسحة في آسيا وبعض مناطق إفريقيا ما أدى إلى خسائر بنحو 15 مليار دولار. من ضمن الظواهر البيئية شديدة التطرف ظهور التسونامي وهي موجة ضخمة محيطية تحتوي على سلسلة من الأمواج وقدراً هائلاً من المياه تسببها الزلازل والبراكين وغيرها، تتجه هذه الموجة المدية إلى الشواطيء فتسبب دمار هائل. ومن أشهر موجات التسونامي ما نتج عن زلزال المحيط الهندي في 26 ديسمبر 2004، حيث ضربت سواحل العديد من الدول منها اندونيسيا، سيريلانكا، تايلاند، الهند، الصومال وغيرها حيث وصفت هذا الكارثة بأنها أحد أسوأ الكوارث الطبيعية التي ضربت الأرض على الأطلاق قتل فيه ما يقارب ربع مليون شخص في مدة زمنية قصيرة جدا.
سوف يحدث احترار كوكب الأرض بصورة تدريجية ولكن آثار الظواهر الجوية الشديدة، كزيادة حدوث الأعاصير والفيضانات ونوبات الجفاف وموجات الحر، ستكون فجائية وذات وقع شديد . ومن شأن كلتا النزعتين أن تؤثر على بعض من أكثر محددات الصحة الأساسية، أي : الهواء والماء والغذاء والمأوى والسلامة من المرض (WHO, 2008).
أجبرت الكوارث الطبيعية في عام 2012 حوالي 32 مليون شخصا على النزوح من منازلهم. حوالي 98% من هؤلاء غادروا بيوتهم بسبب عوامل مناخية مثل الفيضانات والأعاصير والحرائق. من البلدان الأكثر تضررا بهذه الظواهر، نجد الصين والهند وباكستان والفيلبين ونيجيريا. في منطقة شمال شرق الهند لوحدها، أدت الفيضانات المتكررة وموسم الأمطار الى نزوح 6.9 مليون شخص، في الولايات المتحدة الأمريكية، اضطر حوالي 800 ألف شخص لمغادرة منازلهم بسبب إعصار ساندي. هذه الكوارث المتزايدة تساهم بشكل كبير في أنتاج ميكروبات وأمراض جديدة بسبب تدمير بنية شبكة الصرف الصحي وإختلاطها بمياه الفيضانات وصعوية الوصول للخذمات الصحية الملائمة ونقص توفر الأغذية المناسبة خلال هذه الكوارث.
الشيء الذي أكده العلماء أن تغير المناخ سبب أنتشار الأمراض المعدية بسرعة في جميع أنحاء العالم وخاصة الأمراض ذات الحساسية للمناخ مثل الكوليرا وحمى الوادي المتصدع في أفريقيا (Rift Valley fever) وحمى الضنك (Dengue Fever) في أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا (WHO, 2007) كل هذه الفاشيات سببت في خسائر مالية كبيرة ففي البيرو سبب تفشي مرض الكوليرا سنة 1991 بخسائر وصلت إلى 770 مليون دولار إمريكي، وفاشية الطاعون الذي ضرب مناطق في الهند سنة 1994 كبدها خسائر مالية وصلت أكثر من 7 مليار دولار أمريكي (Rockenschaub G, 2007)، كما تخوف العلماء من أحتمال ظهور وأنتشار أمراض فيروسية معدية أخرى مثل مرض فيروس هانتا الرئوي (Hantavirus pulmonary syndrome) في جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية وعدوى فيروس نيباه (Nipah virus) في آسيا.
تغير المناخ وزيادة درجات الحرارة سيؤثر تأثير كبير أيضا في أنماط سقوط الأمطار وبالتالي سيؤثر في الزراعة ويهدد بزيادة سوء التغذية وخاصة في المجموعات من البشر التي تعتمد على زراعة الكفاف أو التي لا تحصل على دخل يكفي لشراء الغذاء من المتوقع أن يتسبب هذا الوضع مباشرة في انتشار سوء التغذية على نطاق أوسع وهذا سيؤدي إلى تقوية الميكروبات الممرضة وحدوث الأمراض المعدية وأشتدادها وخصوصاً في الأطفال.
بصفة عامة، أن تغير المناخ يجلب مشاكل جديدة في مجال مكافحة الأمراض المعدية لأن كثير من الأمراض الفتاكة التي تنقلها المياه والأغذية الملوثة وكذلك الحشرات شديدة الحساسية للظروف المناخية والأحوال الجوية المتطرفة. فتغير المناخ يبطيء التقدم الحالي في مكافحة العديد من الأمراض المعدية أو يوقف هذه التقدم أو يعكس اتجاهه (WHO, 2008).
Ref:
WHO (2008). protecting health from climate change, World Health Day 2008.
WHO. (2006). Burden of disease statistics.
(http://www.who.int/entity/healthinfo/statistics/gbdwhoregionmortality.xls).
Hay SI et al. (2006) Foresight on population at malaria risk in Africa: 2005, 2015 and 2030.
London, Office of Science and Innovation, Foresight Project,:40
Hales S et al. (2002). Potential effect of population and climate changes on global distribution of
dengue fever: an empirical model. Lancet, 360:830–834.
Zhou XN et al. (2008). Potential impact of climate change on schistosomiasis transmission in China. American Journal of Tropical Medicine and Hygiene, 2008, 78:188–194.
Menne B, Ebi K. (2005). Climate change and adaptation strategies for human health. Darmstadt,
Steinkopff Verlag.
Ebi KL et al. (2006). Climate change and human health impacts in the United States: an update on the results of the US national assessment. Environmental Health Perspectives,
114:1318–1324.
Madeline Drexler. (2011). What You Need to Know About Infectious Disease. THE NATIONAL ACADEMIES PRESS.
WHO (2007). Invest in health, build a safer future. Health Day 2007 Issues paper) Geneva,
Rockenschaub G. (2007). Towards health security: a discussion paper on recent health crises in
the WHO European Region. Copenhagen, World Health Organization Regional Office for Europe, 2007 (http://www.euro.who.int/healthy-cities)
عوامل جديدة أثرت في علاقتنا بالميكروبات الممرضة:
في المقالات التالية سنناقش تلك العوامل الجديدة التي ظهرت على السطح ولم تكن موجودة في الماضي وكان لها اُثر الأكبر في زيادة الأحتكاك بين الإنسان والميكروبات الممرضة وبالتالي في أنتشار العديد من الأمراض الوبائية في مناطق وبلدان جديدة لم تكن تحدث بها تلك الأمراض في السابق.
- العولمة والميكروبات الممرضة.
- العالم القرية الصغيرة.
- تأثير النزوح والهجرات البشرية والصراعات المسلحة والحروب الأهلية في انتشار الميكروبات الممرضة.
- الحركة التجارية للمنتجات الغذائية بين دول العالم وانتشار الأمراض المعدية.
- تغير المناخ العالمي وعلاقته بالميكروبات الممرضة.
- الإضطربات في النظم الإيكولوجية وعلاقتها بالميكروبات الممرضة.
- الفقر وسوء الحالة الإقتصادية وعلاقتها بالميكروبات الممرضة.
- حدوث الطفرات الجينية والميكروبات الممرضة.
تم إلقاء هذه المقالة كمحاضرة أفتتاحية بالمؤتمر الليبي الثاني للعلوم الطبية والصيدلانية بجامعة طرابلس الأهلية، جنزور- ليبيا، 28 أبريل 2018
اترك تعليقاً