تأثير النزوح والهجرات البشرية والصراعات المسلحة والحروب الأهلية في انتشار الميكروبات الممرضة
الهجرات البشرية مستمرة عبر التاريخ إلى يومنا هذا فهناك نزوح من الأرياف والمدن الداخلية الصغرى إلى المدن الكبرى التي أصبحت كالحاضنة الضخمة للعدوى الميكروبية. فنجد أوبئة الأمراض التنفسية والمعوية والأمراض الجلدية وغيرها منتشرة بسبب إزدحام البيوت وإلتصاقها مع بعض وبسبب الشوارع المكتظة والمحال التجارية والأسواق الممتلئة بالمتسوقين.
أيضا وجود المخيمات الممتلئة بالنازحين وأنتقال المهجرين إلى الأحياء السكانية المتخلفة عمرانياً ذات نظام صرف صحي متهالك مع ضعف شبكة مياه الشرب النقية وتقادمها كل هذا عوامل تساعد في أنتشار الأوبئة عبر نواقل الأمراض مثل البعوض والقوارض والصراصير وغيرها من نواقل المرض. أيضا مع ضعف منظومة الخذمات الرعاية الصحية في العديد من الدول الأمر الذي سيزيد الحالة سوء ويوسع من أنتشار العدوي والمرض.
تعتبر الصراعات المسلحة في بداية القرن الـ 21 أحد أكبر الأسباب وراء حركة الهجرة ونزوح الشعوب فقد ذكرت وكالة الأمم المتحدة للأجئين أن عدد الأشخاص الذين اضطروا للخروج من ديارهم بسبب الصراعات المسلحة والحروب الأهلية في العالم يصل إلى 65.6 مليون شخص في عام 2016 وشمل العدد اللاجئين وملتمسي اللجوء والأشخاص الذين اقتلعوا من بلدانهم.
أعلنت المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة أن عدد النازحين واللاجئين نتيجة النزاعات في العالم بلغ 65,6 مليون شخص في العام 2016، مما يشكل رقماً قياسياً. وتعني هذه الارقام أن واحداً من كل 113 شخصاً في العالم هو مهجر. وبحسب التقرير فإن القسم الأكبر من هذا العدد هو من النازحين داخل بلدانهم والذين سجلوا رقماً قياسياً بلغ 40,3 مليون شخص بحلول نهاية 2016 بالمقارنة مع 40,8 مليوناً في العام السابق. ويتركز العدد الأكبر من النازحين في سوريا والعراق وكولومبيا. وبلغ عدد اللاجئين 22,5 مليون شخص نصفهم من الأطفال، ليكون بذلك الرقم الأعلى في التاريخ.
الصراعات المسلحة والحروب الأهلية تؤدي إلى نزوح الناس من بيوتهم وموطنهم الأصلي لتفادي القتل والهروب من الدمار التي تسببه القوات المتصارعة إلى أماكن أكثر آمناً متجمعين آما في مخيمات لأجئين مؤقتة أو معسكرات إيواء معدة من بعض المنظمات الإنسانية والجمعيات الدولية الواهبة للمساعدات، تلك المخيمات والمعسكرات تكون عادة مزدحمة وقد لا تتوفر بها المياه نظيفة الكافية للنازحين وأحيانا تنعدم بها خدمات الجيدة للصرف الصحي والعناية الطبية، الأمر الذي يجعل النازحين يتعرضون لنواقل المرض خلال فترة الطواريء. خلال هذه المرحلة يتعرض النازخون للإصابة بالأمراض المعدية الناشئة (Emerging Infectious Diseases) وتزداد نسبة الوفيات بينهم بسبب إنهيار النظام الصحي التي كان معمول به في فترة السلم وهروب الطواقم الطبية المدربة وفشل برامج التحكم في العدوي والمرض وتدمير البنية التحتية. ايضا هولاء الناس معرضين بقوة للعدوى والأمراض بسبب ضعف التغذية وقلة التموين المناسب ونقص أو عدم توفر التحصينات واللقاحات المناسبة أو بسبب الضغط النفسي وإطالة زمن الصراعات والحروب والتي قد تؤثر في كامل البلاد وليس مناطق الصراعات فقط، والأمثلة كثيرة على هذه الصراعات المسلحة وما تسببه من مشاكل صحية للمواطنين كما حدث في أفغنستان وأنغولا والكونغو.
الأمثلة عن تسبب النزوح في الإصابة بالأمراض المعدية
1- في جمهورية طجكستان (Tajikistan ) كانت الملاريا غير موجودة في بداية الستينات بالقرن الـ 20 وقد سجلت فقط 200-300 حالة إصابة ملاريا سنوياً ولكن بعد حدوث الحرب الأهلية في سنوات 1992- 1993 والذي أدى إلى نزوح أكثر من مائة ألف من الأهالي وتغيير طريقة عيشهم إلى أفغنستان وعند عودتهم أحضروا معهم المرض من جديد إلى بلادهم بعد 35 سنة، مع سنة 1997 كانت هناك أكثر من 29 ألف إصابة بطفيل الملاريا.
2- في الثمانينيات من القرن الماضي كانت هناك حوالي 200 ألف حالة إصابة بحمى لاسا (Lassa fever) في غرب أفريقيا وفي التسعينات أندلعت الحرب الأهلية في عدة دول أفريقية (غينيا، ليبريا وسيراليون) مما أدى إلى أكثر من مليوني نازح أجبروا على التخلي عن قراهم وأراضيهم والأنتقال إلى مخيمات مؤقتة فأتاحت فرصة للقوارض للتكاثر بسبب الحالة السيئة للمساكن وتخزين حصص الحبوب في أكياس قماش غير مأمونة مما جذب القوارض لها فأنتشرت الحمى في المخيمات في المناطق التي لم تكن تتوطن بها.
3- وبالمثل، أدت الظروف البيئية الغير الصحية إلى انتشار الفئران في كوسوفو (Kosovo) في فترة ما بعد الحرب وأسفرت عن تفشي مرض التوليميا (Tularemia) بين السكان النازحين في الفترة من أغسطس 1999 إلى أبريل 2000، حيث بلغ عدد الحالات المؤكدة مصليا 327 حالة في 21 بلدية من أصل 29 بلدية. وقد فر السكان من قراهم بسبب التفجيرات، وبعد عودتهم بعد عدة أسابيع، عثروا على مبان مدمرة، ومخازن المواد الغذائية والآبار مياه الشرب ملوثة مما سبب في زيادة أعداد القوارض زيادة كبيرة.
4- الدول المتأثرة بالنزاعات المسلحة الأهلية في أفريقيا عانت من تفشي الإصابات بالأمراض المعدية بسبب إنهيار برامج مكافحة العدوى، السبب الأكبر في تفشي الحمى النزفية الفيروسية (viral hemorrhagic fevers, Ebola) في عدة مناطق في يامبوكو بجمهوية الكونغو الديمقراطية في عام 1976، وفي السودان في عامي 1976، 1979 وفي كيكويت بجمهورية الكونغو في عام 1995 وفي غولو بأوعندا 2000. ففي حالات النزاع المسلح تتعطل برامج مكافحة العدوي وتتعطل الخذمات الصحية بسبب قلة الموارد المالية وعدم كفاية الموظفين المدربين وإنعدام معدات الوقاية الشخصية وتفشي عدوة المستشفيات مما يجعل إحتواء الحمي النزفية صعباً وتساعد في انتشار الواسع للميكروبات الممرضة.
5- الحال كذلك حين تفشت حمى ماربورغ (Marburg hemorrhagic fever) في أنغولا سنتي 2004- 2005 وكانت لأول مرة في بيئة حضرية وكانت الأكثر فتكاً حوالي 374 حالة، تلاتون سنة من الحروب الأهلية سببت في دمار الخدمات الطبية وتدمير البنية التحتية وأنتشار اللغام في الطرق ونقص كبير في الأمدادات ونزوح العناصر الطبية المدربة وبقاء الموظفين الغير متدربين يقومون بأدارة ما تبقى من المرافق الصحية، كما كان السبب الأكبر في تضخيم هذه الفاشية وأنتشارها هي المرافق الصحية نفسها من خلال استخدام الإبر والحقن الغير آمنة واستخدام نفس عبوات الدواء لعدة مرضى وبسبب ضعف التدريب على ممارسة الحقن المأمون.
6- في نهاية السبعينات تم بالفعل القضاء على الملاريا في أفغانستان بعد تنفيذ برامج مكافحة النواقل في الستينيات والسبعينيات. ومع ذلك، مع بداية الحرب الأهلية في عام 1978، التي استمرت تقريبا دون انقطاع حتى عام 1995، انهارت برامج مكافحة عدوى الملاريا وتمكن الطفيل المسبب للمرض من العودة بقوة، حالياً أكثر من 50٪ من السكان يعيشون الآن في المناطق التي يتوطن فيها الملاريا.
7- مرض داء النوم (human African trypanosomiasis) مرض قديم في أفريقيا ولكنه عاد في التسعينات بقوة في الدول المتضررة من الحروب الأهلية مثل أنغولا وجمهوية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان وكانت جمهوية الكونغو أكثر الدول التي تضررت من المرض فقد سجلت أكثر 150 ألف حالة إصابة في فترة النزاعات وذلك بسبب أنهيارالمنظومة الصحية.
8- كثيرا ما تكون نظم مراقبة تفشي الأمراض ضعيفة في حالات النزاع المسلح، مما يؤدي إلى تأخير في الكشف عن الأوبئة والإبلاغ عنها. فيؤدي إلى تأخير المختبرات في أخذ العينات وانعدام الخبرة في جمع العينات وسرعة التأكيد من الميكروبات المسببة لتلك الإصابات. وقد تعرقل النزاعات التحقيق في تفشي المرض وتنفيذ تدابير الرقابة المناسبة، ويعوق الوصول إلى السكان لأخذ عينات، ووجود البنية التحتية المدمرة، والتغطية المحدودة لخدمات الرعاية الصحية، وموظفي الصحة المدربين تدريبا ضعيفا، والخدمات اللوجستية الصعبة التي تحول دون إيصال الأدوية. الحرب الأهلية التي أندلعت في جمهوية الكونغو الديمقراطية منذ عام 1997، سببت في التأخير في أتخاذ الأجراءات لمكافحة تفشي حمى ماربورغ النزفية سنة 1998 لأكثر من ستة أشهر بالرغم من التبليغ المسئول الطبي في الدولة عن حدوث عدة حالات وفيات. وجود متمردين والمشاكل الأمنية وصعوبة المواصلات وضعف الأتصالات والبنية التحتية وضعف الموارد كان السبب وراء ذلك.
9- ستة أشهر أستغرقت من منظمة الصحة العالمية للتفاعل والتعامل مع تفشي حمى الانتكاس (Relapsing fever outbreak) في عام 1998 بجنوب السودان بسبب الأوضاع الأمنية السيئة، الأمر الذي أسفر عن أكثر 400 ألف إصابة وأكثر من ألفان وفاة. ولكن في عام 2000 تم التنبيه عن تفشي الحمى الانتكاس في خلال أسبوع واحد والرد عليهم خلال أسبوعين فتم إحتواء الوباء في غضون أسبوعين مما أدى إلى 154 حالة فقط و ثمانية وفيات.
10- يمكن للصراعات المسلحة المستمرة أن تعيق وصول السكان إلى الإمدادات في الوقت المناسب وتنفيذ تدابير المراقبة خلال تفشي المرض. تم توثيق عدة حالات أعاقة النزاعات وصول الإمدادات للمصابين من ضمنها حالات تفشي الطاعون الرئوي (Pneumonic Plague) في شمال شرق جمهوية الكونغو في عدة أماكن وفي سنوات مختلفة 2004، 2005، 2006، حيث أعاقت الحرب جهود المكافحة ووصول المساعدات الإنسانية وفرق الأستجابة إلى المواقع المنكوبة.
11- ويمكن أن تسبب إطالت أمد النزاعات المسلحة إلى إمكانية عدم وصول حمالات التطعيم من عدة أشهر إلى سنوات بسبب النواحي الأمنية والمواصلات وإنعدام سلسلة التبريد للإمدادات. بعض الأمراض المعدية ظهرت من جديد بسبب أنخفاض التغطية باللقاحات مثل مرض فيروس شلل الأطفال في البلدان المتأثرة بالنزاعات كما حدث في الصومال وفي درافور بالسودان. في الصومال التي كانت خالية من مرض شلل الأطفال لوجود حمالات تحصين مستمرة، ولكن في سنة 2006 وبسبب النزاعات اصبحت 14 منطقة من أصل 19 متأثرة بالمرض، وفي درافور التي سجلت بها الحالة الأولي في عام 2001 وبحلول عام 2005 تم تأكيد 105 حالة في 17 ولاية من أصل 26 ولاية في السودان.
12- وقد ساهم انقطاع برامج التحصين الروتينية جنبا إلى جنب مع الهجرة القسرية للسكان الناجمة عن النزاع أيضا في عودة الحمى الصفراء (Yellow Fever) في أفريقيا في عدة أماكن شهدت النزاعات، حدثت حالات تفشي عديدة منها: أنغولا (1988) وليبريا (1995 و 1996 و 1997 و 2000 و 2001 و 2004) وسيراليون (2003) ) وكوت ديفوار (2000 و 2001) وغينيا (2001 و 2005) والسودان (2003 و 2005). وقد أدى تفشي 2005 في السودان إلى ارتفاع معدل الوفيات بنسبة 25٪ .
13- تساهم النزاعات المسلحة في تطوير مقاومة ضد الأدوية بسبب التشخيص غير الملائم أو الأدوية الغير مناسبة أو بسبب شراء دواء غير كافي او توقف العلاج مع النزوح المفاجيء او عدم الوصول إلى المرافق الصحية بأنتظام وبالإضافة لوجود تجارة غير سليمة للدواء من قبل الصيدليات الخاصة خلال أمد النزاعات في غياب اللوائح التنظيمية ووجود الادوية ذات الجودة المجهولة وأحيانا قبول وصفات طبية من أشخاص غير مؤهلين كلها عوامل تساعد في زيادة مقاومة ضد الأدوية.
وأخيراً، لا مجال للشك بأن الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة تسبب في خلل كامل في المنظومة الصحية وتساهم في خلق ميكروبات معدية وأوبئة وأنتشار فاشيات بين الأهالي النازحين ويمثل الكشف عن الأمراض المعدية الناشئة في حالات الصراع واحتوائها ومراقبتها تحديات رئيسية بسبب عوامل الخطر المتعددة التي تعزز انتقال الأمراض وتعوق السيطرة. لهذا فتشجيع التعاون بين السلطات الصحية المعنية والوكالات والمنظمات الدولية ضروري جدا لإحتواء والتقليل من الضرر الناتج عن هذه الصراعات بأقل ما يمكن. فالمنظمات العالمية يمكن لها أن تحشد خبراء دوليين كشبكة إنذار مبكر ويمكن لها حشد فرق أستجابة للتخفيف من آثار هذه الأمراض ولمنع أنتشار الفاشايات على صعيد الدولي فهذا واجب أخلاقي يمس الجميع.
References:
Effects of war, Wikipedia, the free encyclopedia.
Armed Conflict. (2016). United Nations.
Madeline Drexler (2011). What You Need to Know About Infectious Disease. The Institute of Medicine and the National Academies, Office of Communications. the National Academy of Sciences.
Globalization and disease, Wikipedia, the free encyclopedia.
Gayer M et al. (2007). Conflict and Emerging Infectious Diseases. Emerging Infectious Diseases. 2007 Nov; 13(11): 1625–1631.
Lance Saker, Kelley Lee, Barbara Gilmore and Diarmid Campbell- Lendrum. (2004). Globalization and Infectious disease: A review of the Linkage. UNICEF/UNDP/World Bank/WHO, Special Programme for Research and Training in Tropical Diseases (TDR). Geneva, Switzerland.
Okonko, I. O. , et al. (2009). Conflict and the spread of emerging infectious diseases: Where do we go from here? African Journal of Microbiology Research Vol. 3(13) pp. 1015-1028
UN Refugee Agency, http://www.unhcr.org
عوامل جديدة أخرى أثرت في علاقتنا بالميكروبات الممرضة:
في سلسلة من المقالات التالية سأناقش بعون الله العوامل الجديدة الأخرى التي ظهرت على السطح ولم تكن موجودة في الماضي وكان لها اُثر الأكبر في زيادة الأحتكاك بين الإنسان والميكروبات الممرضة وبالتالي في أنتشار العديد من الأمراض الوبائية في مناطق وبلدان جديدة لم تكن تحدث بها تلك الأمراض في السابق. عناوين هذه المقالات كالأتي:
- العولمة والميكروبات الممرضة.
- العالم القرية الصغيرة.
- تأثير النزوح والهجرات البشرية والصراعات المسلحة والحروب الأهلية في انتشار الميكروبات الممرضة.
- الحركة التجارية للمنتجات الغذائية بين دول العالم وانتشار الأمراض المعدية.
- تغير المناخ العالمي وعلاقته بالميكروبات الممرضة.
- الإضطربات في النظم الإيكولوجية وعلاقتها بالميكروبات الممرضة.
- الفقر وسوء الحالة الإقتصادية وعلاقتها بالميكروبات الممرضة.
- حدوث الطفرات الجينية والميكروبات الممرضة.
اترك تعليقاً