Skip to main content

ثقافة القدرية

القضاء والقدر في دول العالم الثالث وفي الدول المسلمة على الأخص، كان ولا يزال يستخدم بأستمرار كعذر عن الأهمال البشري والأخطاء التي يرتكبها البعض والتي قد تسبب إصابات قاتلة للأخرين أو حتى لأنفسهم.

ولعل هذه إحدى الأشياء التي تؤخذ على بعض المسلمين، وهو إرجاع كل ما يلم بهم من الخير أو الشر إلى القضاء والقدر، وأن كل ما يصيبهم فهو من الله أكنت شخص حذراً أم لم تكن كذلك. وأن كل ما يحدث للإنسان في الدنيا مكتوب عليه من الأزل: الموت والرزق، والنجاح والفشل، والسعادة والشقاء في الدنيا.

دراسة علمية إجريت في دكا ببنغلاديش (Patwary M , et al., 2012) لمعرفة ما إذا كان الإيمان بالقضاء والقدر هو عامل مهم في تفسير الحوادث المهنية بين العاملين في النفايات الطبية، وهو ما يعرف بثقافة القدرية (The culture of fatalism).
حيث وجدت الدراسة أن أرباب العمل لم يزودوا العمال بالملابس الوقاية الشخصية (القفازات والأحذية المناسبة، الكممات، النظارات الواقية وغيرها). وأن معظم العمال (73%) لا يرتدون الملابس الواقية الشخصية بأنتظام وهذا أن وجدت، والبعض منهم (18%) كانت ملابس الوقاية الشخصية لديهم غير ملائمة لمثل هذا العمل. أما بخصوص الإصابات المهنية خلال تعاملهم مع النفايات الطبية الخطرة فمعظم العمال (95%) أجابوا بأنهم قد شهدوا حوادث عمل ومعظمها (75٪) كانت حوادث نتيجة وخز وجرح وقطع الإبر والأدوات الحادة الأخرى المستخدمة وأم أسباب إصابتهم ليس بسبب ما ذكرناه من عدم ارتداء الملابس الوقاية الشخصية وسوء التعامل والأهمال بل كان القضاء والقدر. وارتبطت هذه الملاحظات مع المعتقدات القدرية بين المشاركين، سواء المدراء والموظفين، الذين نسبوا هذه الأحداث إلى “القضاء والقدر” وليس خلل في إجراءاتهم وتعاملهم السيء مع النفايات الخطرة.

دراسة أخرى من نيجيريا أكذت بأن الإيمان بالقضاء والقدر قلل من عدم الامتثال لسلوكيات السلامة المهنية بين 159 ممرضة في ثلاث مستشفيات حكومية (Fabian O, et al., 2015)، والعديد من الدراسات الأخرى أثبتت عدم وجود الوعي التنظيمي التي يمكن أن يحدث داخل ثقافة القدرية.

نعم، نحن نؤمن بأن كل ما في الكون مكتوب مسجل وهذ لا يختلف عليه أثنان ولكن المسلم مطالب بأن يأخذ بالأسباب ويسعى بكل ما أوتي من قوة لجلب النفع أو دفع الضر، وهو يوقن تمام اليقين أنه لا يجلب لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضرا إلا بإذن الله. والآيات الكريمة في ذلك كثيرة منها: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير). (سورة الحديد: 22). (ولا يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) (سورة يونس: 61) (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (سورة الأنعام: 59).

في إجابة لأحد علماء المسلمين عندما سئل عن القضاء والقدر قال ” إن الله كما كتب المسببات كتب الأسباب، وكما قدر النتائج، قدر المقدمات فهو لا يكتب للطالب النجاح فحسب بحيث يصل إلى هذه النتيجة بأي وسيلة، ولكن يكتب له النجاح بوسائله من جد وحرص وانتباه ووعي وصبر وجلد إلى آخر هذه الأسباب. فهذا مقدر مكتوب، وهذا مقدر مكتوب. إن الأخذ بالأسباب لا ينافي القدر بل هو من القدر أيضًا،ولهذا حين سئل – صلى الله عليه وسلم – عن الأدوية والأسباب التي يتقي بها المكروه، هل ترد من قدر الله شيئًا، كان جوابه الفاصل: ” هي من قدر الله ” رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. وفي قصة اخرى عندما انتشر الوباء في بلاد الشام قرر عمر بن الخطاب بمشورة الصحابة العدول عن دخولها، والرجوع بمن معه من المسلمين . فقيل له: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين ؟ قال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن نزلت بقعتين من الأرض، إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة، أليس إن رعيت المخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت المجدبة رعيتها بقدر الله.

أن الإيمان بالقدر لا ينافي فعل الأسباب، بل إن فعل الأسباب مما أمر به الشرع، وهو حاصل بالقدر؛ لأن الأسباب تنتج عنها مسبباتها. ففي حالة هولاء العمال، إذا لم تكن هنالك القفازات لتلوثت اليدين واصيبوا بالمرض، وإذا لم تكن هناك الكممات لأستنشقوا الجراثيم الطائرة واصيبوا بالمرض، وإذا لم تكن هناك الملابس الواقية الشخصية لمرض العديد منهم وهم ينقلون النفايات. وفي أمر الله للسيدة مريم بنت عمران بهز جذع النخلة ليتساقط الرطب عبرة لمن اعتبر فلو شاء الله لأنزل عليها الرطب بدون هز النخلة، وحين سأل رجل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل ؟ قال (بل اعقلها وتوكل). فإن التوكل على الله من أعظم العبادات التي أمر الله بها عباده ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، ومعناه اعتماد القلب على الله وتفويض الأمر إليه مع الأخذ بالأسباب. أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بأي حال من الأحوال.

Reference:

Patwary M , O’Hare WT and Sarker MT. (2012). Occupational accident: An example of fatalistic beliefs among medical waste workers in Bangladesh. Safety Science. Volume 50, Issue 1. Pages 76–82.

Fabian O. Ugwu FO, Ike E. Onyishi IE, Chidi Ugwu C and Onyishi. (2015). Type A behavior pattern, accident optimism and fatalism: an investigation into non-compliance with safety work behaviors among hospital nurses. Int J Occup Saf Ergon.21(4):464-70.

Web site:
Islam QA, https://islamqa.info/ar/11749
Qaradawi net, http://qaradawi.net/new/all-fatawa/5647-2015-10-21-03-10-00
Nquran.com, http://www.nquran.com/index.php?group=view&rid=2212

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


المنشورات ذات الصلة

التأثيرات البيئية للنفايات البلاستيكية

تزايد الوعي العام بالتأثير البيئي للنفايات البلاستيكية، وما تسببه من أضرار سوء على المدى القصير …

المعالجة المبدئية للنفايات الطبية المعملية

معامل ومختبرات التحاليل الطبية تنتج كميات كبيرة ومتنوعة من النفايات الطبية ذات خطورة وضرر كبير ع…

الجرائم البيئية

الجرائم البيئية (Environmental Crimes) أصبحت واقع يعيشه العالم نتيجة الأرباح الضخمة التي تجنيها …